الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} أي تمرّدوا وتكبروا وأبَوا أن يترُكوا ما نُهوا عنه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} صاغرين أذلأَ بُعَداءَ عن الناس، والمرادُ بالأمر هو الأمرُ التكوينيُّ لا القولي، وترتيبُ المسخِ على العتو عن الانتهاء عما نهوا عنه للإيذان بأنه ليس لخصوصية الحوتِ بل العُمدةُ في ذلك هو مخالفةُ الأمر والاستعصاءُ عليه تعالى. وقيل: المرادُ بالعذاب البئيس هو المسخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى. روي أن اليهودَ أُمروا باليوم الذين أُمرنا به وهو يومُ الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} فابتُلوا به وحُرّم عليهم الصيدُ فيه وأُمروا بتعظيمه فكانت الحيتانُ تأتيهم يوم السبت كأنها المخاضُ لا يُرى وجهُ الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيامِ فكانوا على ذلك برهةً من الدهر ثم جاءهم إبليسُ فقال لهم: إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضًا سهلةَ الورودِ صعبةَ الصدور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتانَ إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد، وأخذ رجل منهم حوتًا وربط في ذنبه خيطًا إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جارُه ريحَ السمك فتطلع في تنّوره فقال له: إني أرى الله سيعذبك، فلما لم يَرَه عُذّب أخذ في يوم السبت القابلِ حُوتين فلما رأوا أن العذابَ لا يعاجلُهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا وكانوا نحوًا من سبعين ألفًا فصار أهلُ القرية أثلاثًا ثلثٌ استمروا على النهي، وثلثٌ ملُّوا التذكير وسئِموه وقالوا للواعظين: لم تعِظون الخ، وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون: نحن لا نساكنُكم فقسموا القريةَ بجدار، للمسلمين بابٌ وللمعتدين باب ولعنهم داودُ عليه السلام فأصبح الناهون ذاتَ يوم في مجالسهم ولم يخرُجْ من المعتدين أحد فقالوا: إن لهم لشأنًا فعَلَوا الجدارَ فنظروا فإذا هم قردةٌ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القِردةُ أنسباءَهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القردُ يأتي نسيبَه فيشم ثيابه فيبكي فيقول له نسيبُه: ألم ننهَكم؟ فيقول القردُ برأسه: بلى، ثم ماتوا عن ثلاث، وقيل: صار الشبانُ قردةً والشيوخُ خنازير، وعن مجاهد رضي الله عنه: مُسخت قلوبُهم، وقال الحسن البصري: أكلوا والله أوخَمَ أكلةٍ أكلها أهلُها أثقلُها خزيًا في الدنيا وأطولُها عذابًا في الآخرة هاه وأيمُ الله ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظمُ عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موعدًا والساعةُ أدهى وأمرّ. اهـ..قال الألوسي: {فَلَمَّا عَتَوْاْ} أي تكبروا {عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والأباء عن المنهى عنه لا يذم {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشيء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة.وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلًا لما قبلها.روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعًا بيضًا سمانًا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء الله تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلًا منهم أخذ حوتًا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذخ وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثًا كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الانس ولم تعرف الإنس انسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاث.وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير، وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفعهم الحق.وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتًا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدًا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعة حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكله أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابًا في الآخرة وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عز وجل جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر.وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطئ البحر الذي هم عنده ضمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخرة لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك إن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوه فيه فإذا ذهب اليوم فشأنكم به فصيدوه فابتلى القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لأن قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطئ الفرات السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل». اهـ..قال القاسمي: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [166].{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} أي: تكبروا وأبوا أن يتركوا ما نهوا عنه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} أي: صاغرين أذلاء، بُعداء من الناس.قال الزجاج: أمروا بأن يكونوا كذلك بقولٍ سُمع.وقال غيره: المراد بالأمر هو الأمر التكويني، لا القولي، أي: التكليفي، لأنه ليس في وسعهم حتى يؤمروا به.وفي الكلام استعارة تخييلية، شبه تأثير قدرته تعالى في المراد من غير توقف، ومن غير مزاولة عمل واستعمال آلة، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور به، من غير توقف. كذا في العناية.وظاهر الآية يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولًا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلًا لما قبلها.تنبيهات:الأول: قال الجشمي: تدل الآية على أنهم تعبدوا بتحريم الصيد يوم السبت، وأنه شدد التكليف عليهم بظهورها يومئذ، وأنهم خالفوا أمر الله، وهذا القدر يقتضيه الظاهر.ومتى قيل: أفظهور الحيتان يوم السبت دون غيره من الأيام، هل كانت معجزة؟قلنا: اختلفوا فيه، فقيل: كان معجزة لنبي ذلك الزمان، لأنه لا يتفق للسمك أن يأتي الأنهار كثيرًا في يوم واحد، ولا يظهر في سائر الأيام، فإن كان كذلك، فلابد أن الله تعالى قوى دواعي الحيتان يوم السبت، فظهروا، وصرفهم في سائر الأيام، فلم يظهروا، فكانت معجزة.وقيل: كانت جرت عادتهم بترك الصيد يوم السبت، فعلموا ذلك فكثروا في ذلك اليوم على عادتهم، كما اعتاد الدواب كثيرًا من الأشياء. انتهى.وقد روي في اعتدائهم في السبت روايات:منها: أنهم تحيلوا لاصطياد الحيتان فيه بوضع الحبائل والبرك قبل يوم السبت، حتى إذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة، نشبت بتلك الحبائل، فلم تخلص منها يومها، فإذا كان الليل، أخذوها بعد انقضاء السبت.ومنها: أنهم كانوا يأخذونها يوم السبت بالفعل، ولكن يأكلونها في غيره من الأيام، فتأول لهم الشيطان أن النهي عن الأكل فيه منها، لا عن صيدها، فنهتهم طائفة منهم عن ذلك وقالت: ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف، أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، فلما أصبحوا وجدوهم أصابهم من المسخ ما أصابهم، وإذا هم قردة- رواه عبد الرزاق وابن جرير- وثمة روايات أخر.وروي عن مجاهد أنهم مسخت قلوبهم، لا أبدانهم- والله أعلم-.الثاني: اسُتدل بهذه القصة على تحريم الحِيَلِ.قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان: ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله، الحيل والمكر والخداع، الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وإسقاط ما فرضه، ومضادته في أمره ونهيه، وهي من الرأي الباطل الذي اتفق السلف على ذمه.فإن الرأي رأيان: رأي يوافق النصوص، وتشهد له بالصحة والإعتبار، وهو الذي اعتبره السلف، وعملوا به، ورأي يخالف النصوص، وتشهد له بالإبطال والإهدار، فهو الذي ذموه وأنكروه.وكذلك الحيل نوعان: نوع يتوصل به إلى فعل ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى عنه، والتخلص من الحرام، وتخليص المحق من الظالم المانع له، وتخليص المظلوم من يد الظالم الباغي، فهذا النوع محمود، يثاب فاعله ومعلمه. ونوع يتضمن إسقاط الواجبات، وتحليل المحرمات، وقلب المظلوم ظالمًا، والظالم مظلومًا، والحق باطلًا، والباطل حقًا، فهذا الذي اتفق السلف على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض.ثم ساق الوجوه العديدة على تحريمه وإبطاله.وقال في سادسها:إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما اختالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد، أخذوه يوم الأحد.قال بعض الأئمة: ففي هذا زجر عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية، ممن يتلبس بعلم الفقه، وهو غير فقيه، إذ الفقيه من يخشى الله تعالى بحفظ حدوده، وتعظيم حرماته، والوقوف عندها، ليس المتحيل على إباحة محارمه، وإسقاط فرائضه.ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيبًا لموسى عليه السلام وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل، واختيال ظاهره ظاهر الإيفاء، وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا- والله أعلم- مسخوا قردة، لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الْإِنْسَاْن، وفي أوصافه شبه منهم، وهو مخالف له في الحد والحقيقة.فلما نسخ أولئك المعتدون دين الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره، دون حقيقته، مسخهم الله قردة يشبهونهم في بعض ظواهرهم، دون الحقيقة، جزاء وفاقًا.ثم روي في عاشرها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، وتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل».الثالث: دلت الآيات على أن أهل هذه القرية صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور، واحتالوا على صيد السمك يوم السبت، كما بينا. وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه، ولكنها قالت للمنكرة: لم تنهون هؤلاء، وقد علمتم أنهم قد هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟فأجابتها المنكرة: بأنا نفعل ذلك اعتذارًا إلى ربنا فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.ثم نص الله على نجاة الناهين، وهلاك الظالمين.وقال ابن كثير: وسكت عن الساكتين، لأن الجزاء من جنس العمل، فهم لا يستحقون مدحًا فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيمًا فيذموا، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم: هل كانوا من الهالكين، أو من الناجين؟ على قولين.ويروى أن ابن عباس كان توقف فيهم، ثم صار إلى نجاتهم، لما قال له غلامه عِكْرِمَة: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه، خالفوهم، وقالوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم؟ فكساه حلة.الرابع: دل قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} على أن النهي عن المنكر لا يسقط، ولو علم المنكر عدم الفائدة فيه، إذ ليس من شرطه حصول الإمتثال عنه، ولو لم يكن فيه إلا القيام بركن عظيم من أركان الدين، والغيرة على حدود الله، والإعتذار إليه تعالى، وإذ شدد في تركه لكفاه فائدة. اهـ.
|